زالزال المغرب: كيف انقلب الجبل على سكان
– مارينا ميلاد:
منطقة أوريكا - إقليم الحوز، 8 سبتمبر، 11 مساء،
ساعة متأخرة من ليلة هادئة، كانت الأنسب لـمصطفى أخباش ليضغط على زر التسجيل ويبدء في توثيق حديث والده العَجوز عن تاريخ منطقتهم وحرفتهم.. اسند رأسه إلى الحائط وأخذ يسرح ويسمع.. فهو باحث مهتم بالتراث بخلاف عمله الأساسي في صناعة المنتجات الخشبية.. ولما بدأ الأب يندمج في الحكايات ويتذكر سنواته الماضية في هذه الأرض، اهتزت أسفله بقوة.. فقفز الهاتف من يد ابنه، ولم يكن سَجل من حديثهما سوى 11 دقيقة، ثم تحول بقية التسجيل إلى أصوات متداخلة، خطوات ركض، أنفاس متلاحقة، ثم صراخ.
حين خرج "مصطفى" وأسرته إلى الشارع، أدرك أنه زلزالا، فجرى ناحية بيته المجاور، حيث زوجته وأبناؤه الذين كانوا عالقين.
لازال لا يمكن لـ"مصطفى" وصف شعوره في تلك اللحظة التي عليه فيها أن يحمي نفسه وأسرته ووالديه. استولت عليه صدمة جعلته لم يلحق حتى أن يشعر بشئ، فيقول: "شعور غريب.. لم أكن أصدق ما أراه.. فهذا رأيته في الأفلام فقط".
وبعد مرور أيام، اعتبر "مصطفى" نفسه محظوظا رغم كل شئ. فقد نجا من زلزال بلغت قوته 6.8 درجة ضرب إقليم الحوز بالمغرب، وقضى على حياة أكثر من 2800 شخص وأصاب مثلهم.
إلى الجنوب من مراكش القديمة، التي لا تبدو كعادتها: لا صاخبة ولا لامعة؛ يلتف رجل راكب على حماره بين طرق جبلية ضيقة ووعرة ليجلب مياها إلى قريته من عيون بعيدة. وفي اتجاه آخر، تسير قافلة مساعدات بين الطرق نفسها، محاولة تفادي الأنقاض والحجارة الواقعة من الجبل، لتصل إلى قرية أخرى.
فلا وسائل متاحة لسكان قرى جبال أطلس أو "الدواوير" - كما يطلق عليها هناك – إلا تلك التحركات الفردية. إذ امتلأت الطرق المؤدية إليهم بصخور وحطام، وتأخرت الإمدادات الحكومية ووصول فرق الإنقاذ لبعضها. فيقول عبد الرحمن بنهدير (أحد سكان قرية تيزي نتاست): "لقد نفدت مياهنا، وهناك مصابين لم يتمكنوا من الذهاب إلى المستشفيات".
وفي قرية مصطفى أخباش المعروفة بصناعة الفخار وأنها تجذب السائحين في الأيام العادية، يمسك بعض الشباب أدوات ومعاوي لرفع الأحجار بأنفسهم، وأخرون يخرجون الأثاث والملابس من البيوت، بينما يدفن غيرهم موتاهم ويشيعون جنازاتهم بين الأزقة المتهدمة، كما يحكي "مصطفى".
يَمر الوقت ثقيلاً وقاسيًا على الرجل ذو الـ43 عامًا، وهو ينظر إلى البنايات التي تناثرت في قريته، وإلى بيته الذي لا يأمن الصعود إليه أو الاحتماء به، فيقول إن "هناك نحو 150 منزلا سقط أو آيل للسقوط.. الناس تفترش في العراء طوال هذه الأيام، فلا يمكننا النوم في بيوت معرضة للإنهيار في أي لحظة".
أغلب تلك البيوت بقرية "مصطفى" وغيرها لا يتعدى ارتفاعها طابقين ومبنيه من الطوب اللبن، لذا، وفقا لمهندسين وخبراء، "فهي ليست مهيأة للصمود في ظروف كهذه".
ولقد جاء مركز الزلزال أسفلها، حيث سلسلة القرى الجبلية الممتدة بإقليم الحوز، تحديدًا قرية إيغيل، التي يضمها الإقليم مع نحو أربعين قرية أخرى.. جاء الزلزال ليطحنها أكثر، فالقرى الأكثر تضررًا من بين أفقر المناطق بالمغرب، وتفتقر بعض منازلها إلى الكهرباء أو المياه، حتى في أفضل الأوقات.
يتدلى من طوابق تلك البيوت المنهارة فراش وملابس وأجهزة، تكشف جميعها عن أحوال ساكنيها إن كانوا عمالا باليومية أو صانعين تقليديين مثل مصطفى أخباش ووالده أو مزارعين كما هو الحال في قرية تينزرت ماريغة.
في تلك القرية، تطل رؤوس المواشي من بين حطام أحد البيوت.. ربما نجت وأصحابها لم ينجوا أو العكس. فيقول علي آيت (عامل نظافة في البلدية وأحد أهلها): "الناس هنا فقدت كل شئ، عائلة، بيوت، ومواشي.. لا يمكن وصف حجم المأساه التي نعيشها".
نجا "علي" (52 عامًا) وأسرته الصغيرة من مصير 22 شخصًا من عائلته راحوا ضحية الزلزال بالقرية.. وقتها، كان في بيته بمدينة ابن جرير، التي امتد إليها تأثير الزلزال لكن بدرجة أقل. يتذكر ما حدث، ويقول بأسى: "أبنائي وقعوا في حالة هيستيريا وبكاء غير طبيعية.. فالجدران كانت تصدر أصوات غريبة".
ولأن الكهرباء والإتصالات انقطعت في أغلب المناطق المتأثرة، فلم يبلغه أحدا بما وقع بقريته إلا في اليوم التالي، وأن الأسقف انهدمت فوق سكان القرية النائمين مبكرًا كعادتهم. ومن استطاع الفرار؛ سقطت عليه حجارة من الجبل لضيق الشوارع، هكذا عرف "علي".
ومنذ تلك الليلة المظلمة، ظل الرجل يجمع المساعدات الغذائية والأدوية والملابس وينقلها لأهل قريته، الذين يفترشون مساحات كانوا يستخدمونها بالأمس لزراعة الخضروات والحبوب.
باتت بعض القرى تشبه المخيمات، فتحول المشهد فيها من بيوت قديمة وجميلة متجمعة على المنعطفات وحولها أشجار إلى أحجار وتراب وخيم مصنوعة من الأقمشة.
يزداد خوف أبناء مصطفى أخباش كلما شاهدوا ذلك أو تذكروا يوم الزلزال. وقد عززت هزاته الارتدادية من ذعرهم أكثر. تتحدث ابنته الكبرى ذات الـ17 عامًا عن أنها تـريد خيمة، فربما تشعر فيها بقدر من الأمان عن بيتهم، على الرغم من قسوة الليالي الجبلية الباردة، التي تفرضها طبيعة منطقة الأطلس.
يحاول "مصطفى" تهدئتهم باستمرار، ثم يتركهم لوقت وينضم إلى شباب يتطوعون للمساعدة.. يمرون بحذر وسط منازل متهدمة ومائلة ضاعت معالهما، يساعد البعض أولئك الذين ينبشون عن أوراقهم الهامة أو بقايا أموالهم، وجزء أخر ينادي على أهل المنزل بالاسم، لعل هناك شخصًا عالقًا يمكنهم إنقاذه.
هنا يوضح "مصطفى" أن أي قرية (الدوار) هي عبارة عن عائلة كبيرة، والكل يعرف المنازل وأصحابها.
ثم يتكلم مع الواقفين بالأمازيغية، يتحدثون عن وجود فرق إنقاذ وسيارات الأسعاف في نقاط بعيدة، وعن تدخل الجيش الوطني المغربي لإيصال المساعدات لتلك المناطق إلا أن المروحيات لم تتمكن من الهبوط. ويتحدث ناصر جبور (مسؤول المعهد الوطني للجيوفيزياء في الرباط) عن ذلك قائلا: "المنطقة تغيرت كثيرًا بسبب الانجرافات والانهيارات، السلسلة الجبلية متأثرة وكأنها دخلت في تناغم مع الزلزال".
في الوقت نفسه، تعلن السلطات المحلية أنها تسابق الزمن لإنقاذ المحاصرين تحت الأنقاض سواء أحياء أو أموات، كذلك للوصول إلى تلك المناطق النائية. وعرضت عدة دول مساعدات على المغرب، وحتى الآن استجابت لعروض كل من إسبانيا وبريطانيا وقطر والإمارات.
بدأت الطرقات تنفتح شيئا فشئ مع وصول المعدات الثقيلة إلى بعض القرى.. فكشف ذلك عن أن هناك مئات البيوت أو ربما قرى بأكلمها تبخرت. إذ قال عبد اللطيف وهبي (وزير العدل المغربي) "إن عددًا من القرى التي ضربها الزلزال قد تختفي نهائيًا".
رغم ذلك الوضع الرهيب في قرية تينزرت ماريغة، يجلس علي آيت مع المتبقين من عائلته. ويقول "إنهم يتحصرون ويتألمون، لكنهم متمسكون بأرضهم مهما حدث".
لكن يبدو جليا أن الأمور في "الدواوير" المنكوبة لن تتحسن أو تهدأ بمرور الوقت.. فكلما مَر يومًا جديدًا عليها، كلما ضاع أملها في إنقاذ مفقوديها، كلما ارتفع عدد ضحاياها، وزاد يأس أهلها، فحول الصراخ إلى صمت ووجوم.
ينظر مصطفى أخباش إلى كل المشاهد المتلاحقة أمامه: سيل الجنازات، الأماكن المدمرة، والحكايات الحزينة، ربما يفكر في عمله بالسياحة التي ستتوقف لفترة طويلة، ويتسائل: "كيف يمكن إصلاح هذا الوضع الكارثي، حتى بعد ذلك؟".
وفي رأي الاتحاد الدولي لجمعيات الصليب الأحمر والهلال الأحمر، "فأن تعافي المغرب قد يستغرق أشهرًا، إن لم يكن سنوات".
يستمع "مصطفى" إلى تسجيله مع والده، فقد وثق له لحظة لم تخطر بباله، لحظة حلت فيها كارثة على بلدته المعروفة بحرفها اليدوية ومناظرها الطبيعية، بدلا من أن يوثق له تاريخها. وبات تسجيله يشبه عقارب الساعة التي وجدها لاحقا بين الحطام وتوقفت عند 11:11 مساء الجمعة.
اقرأ أيضًا: