-

نبوءة بلمختار.. لماذا اشتعل غضب الضواحي في

(اخر تعديل 2024-09-09 15:26:01 )
بواسطة

- مارينا ميلاد:

"رغم أننا سنعاني على المدى القصير، إلا أن ما حدث سيجبر الحكومة على المدى الطويل على عمل شيء، وإلا فان الجولة القادمة من العنف ستكون أسوأ"..

كان ذلك جزءًا من حديث قديم لسائق سيارة أجرة يدعى أحمد بلمختار، وهو من أصل جزائري يسكن بلدة "كليشي" (إحدى الضواحي الباريسية)، أثناء احتجاجات كبيرة تصدرها المهاجرون عام 2005.

بعد 18 عامًا ربما شهدت فرنسا الجولة الأكثر عنفًا التي تحدث عنها "بلمختار"!.. ليال خمس حولت شوارعها الهادئة الأنيقة إلى ساحة اشتباك بعد مقتل شاب - من أصول جزائرية أيضًا - على يد شرطي أثناء محاولته الإفلات من تدقيق مروري.

غضب جديد خرج من "فتية صغار جدًا"، حسب وصف الرئيس الفرنسي لهم. اتهم في إشعاله منصّتي "سناب شات" و"تيك توك" لتنظيمهم "تجمّعات عنيفة" لتحريض هؤلاء، وفقا لادعائه. وإن كان محقًا أم لا، فالواضح أن الغضب الذي يجتاح الواقع وعالم منصات التواصل معًا يكشف عن أزمة "الضواحي الفرنسية" الأكبر عمرًا منهم ومن الفتى الذي قُتل فأشعلها.

بين عشية وضحاها، هدأت الاحتجاجات التي بدأت يوم 27 يونيو الماضي. بينما الهواء لازال مليئًا بالغاز المسيل للدموع، و"الشانزليزيه" ليس مضيئًا ومبتهجًا كما يبدو دائمًا، والشوارع يصطف على جانبيها أعداد غير معتادة لرجال الشرطة.

دُفن "نائل" ووُجه للشرطي تهمة القتل العمد وأزالت السلطات الحافلات والسيارات المحترقة. لكن يبدو أن غضب الصغار الذين أتوا من الأحياء المهمشة لا يمكن دفنه أو إزالته بنفس السرعة.

هؤلاء الذين يُقدر متوسط أعمارهم بـ17 عامًا، يمثل عدد كبير منهم أمام محاكم المنطقة الباريسية الآن بعد اعتقال أكثر من 1300 شخص خلال الأيام الماضية. بعضهم تلامذة في المرحلة الثانوية أو في المعاهد المهنية، وآخرون يعملون في مطاعم وحانات. ولعل الأهم أن غالبيتهم ليس لديهم أيّ سجلّ إجراميّ، وفقاً لجيرالد دارمانان (وزير الداخلية).

ينظر الرئيس الفرنسي الأصغر في تاريخ الإليزيه إليهم على "أنّهم أشخاص يطبّقون في الشارع ما يعيشونه في ألعاب الفيديو التي سمّمتهم". لكنهم يظهرون أسبابًا أكبر من ذلك بكثير.

فيقول أحد المحتجين في باريس، لوكالة الأنباء الفرنسية، وهو يقف أمام متجر تعرض للنهب، "أعمال التخريب لن تفيد بشيء لا التحقيق ولا نائل. نحن فقط سئمنا من أخطاء الشرطة الفادحة. فنُظهر لهم أننا غاضبون، نظهر لهم أنه إذا لم يحركوا ساكنًا فيمكننا أن نغضب وأن نكسر أشياء، وهنا يتحركون".

يتشابه ما يتحدث عنه هذا الشاب ذو الـ16 عامًا مع ما قاله أحمد بلمختار خلال الاحتجاجات التي اندلعت بالضواحي المحيطة بباريس عام 2005 واستمرت لثلاث أسابيع كاملة.

وقع ذلك ليلة 27 أكتوبر عام 2005 في بلدة شين بوانتو بمدينة "كليشي سو بوا"، عندما اشتبه أحد الحراس في تسعة مراهقين وأبلغ الشرطة. هربوا سريعاً واختبأ 3 منهم في إحدى محطات توليد الكهرباء، فكانت في انتظارهم شرارة كهربائية قوتها 20 ألف فولت. قتلت اثنين منهما، بينما أصابت الثالث بحروق التهمت 10% من جسده.

ثم بدأت أعمال العنف في الليلة نفسها. وقد زاد حدتها قنبلة الغاز التي سقطت في مسجدًا بالمدينة خلال الاشتباكات مع الشرطة. فامتد الشغب للبلدات المجاورة. وكانت النتيجة: إحراق 10 آلاف سيارة وتدمير أو إلحاق أضرار بـ300 مبنى واعتقال 1300.

وقتها، ارتدى أصدقاء القتيلين قمصانا مكتوب عليها "ماتا هباءً". وقال أحمد بلمختار، الذي يعيش بالمدينة نفسها في منطقة فقيرة تسودها الجريمة، "إن سكان هذه المناطق وهم مهاجرون من غرب وشمال افريقيا يعانون البطالة، والقبضة الأمنية الصارمة، والتمييز، والاسكان البائس".

والآن، حين لحق "نائل" بهذين المراهقان، عادت مجددًا مشاهد السيارات مشتعلة والواجهات المحطمة والشرطة المدججة بالسلاح، ومعها أزمة سكان هذه الضواحي، لكن بشباب أصغر سنًا، ولد أغلبهم في نفس العام الذي شهد الاحتجاجات الأولى.

عايشت مارتين أوبري (رئيسة بلدية مدينة ليل) جيلي الاحتجاجات، فقالت "إنّه في 2005 كان هناك عدد أكبر من الشبّان في الشوارع، وكانوا أكبر سنّاً. كان بإمكاننا أن نتواصل معهم. لكن في الاحتجاجات الراهنة هناك عدد كبير من الأطفال الذين لا يمكننا أن نتحاور معهم".

وطوال أيام الاشتباك، كان هؤلاء المتخفين خلف أوشحة يتحركون ضمن مجموعات صغيرة ويتفرقون بسرعة شديدة، كما ذكر مراسلو وكالة الأنباء الفرنسية. وفي حيّ بابلو بيكاسو بضاحية نانتير (غرب باريس)، حيث كان يسكن "نائل"، تتولّى مجموعات التنظيم وأخرى مسؤولة عن مراقبة مداخل الحيّ، وثالثة التصدّي لقوات الشرطة وإطلاق المفرقعات باتّجاهها.

يجري ذلك وهم ممسكون بهواتفهم النقّالة ليتواصلون في كل لحظة، يحددون خططهم، ويتابعون التطورات على الأرض عبر منصات التواصل الاجتماعي.

وتلك الفئة هي الأكثر تأثيرًا بالمواد المنشورة لأعمال شغب، فهم يتشاركونها وقد يقلدها بعضهم. هكذا يرى أحمد الشيخ (الصحفي والباحث المتخصص في المنصات الرقمية). لكن لا يعني ذلك في رأيه، أنها تحرضهم على العنف مثلما قال "ماكرون"، فقد لا يتعدى المحتوى المنشور التغطية الإخبارية، لكن الأمر كله يتوقف على استيعاب المستخدم.

ورد مسؤولو تطبيق "سناب شات" على اتهام الرئيس الفرنسي بأنه يحذف المقاطع التي تشجع على العنف والكراهية. بينما لم يعلق "تيك توك" حتى اللحظة، ذلك على الرغم من أن الأرقام تظهر أن أغلب مستخدمي التطبيقين يهتمون بـالتسلية أكثر من متابعة الأخبار والأحداث.

لكن احتجاجات الضواحي الأولى عام 2005 لم تجد تلك المساحة الإلكترونية للظهور على هذا النحو. فيعبر بشير مقراني، الذي يسكن إحدى المناطق الفقيرة، في حديث نشرته صحيفة الغارديان عن شكل من أشكال المعاناة في صمت، فيقول: "عمري الآن 40 عامًا، حاصل على الماجستير ورب أسرة، لكن طوال حياتي تعرضت للتمييز والإذلال، وكان ذلك دائمًا من قبل الشرطة".

تلك الضواحي التي ربما يشعر السائر فيها أنه ليس في فرنسا أبدًا مع رؤيته للأطعمة المعروضة، استنشاقه الروائح المنبعثة، واستماعه للموسيقى العربية، تشكلت في النصف الأول من القرن الـ19 تقريبًا لتجتمع فيها الأنشطة التي رفضتها المدينة أولاً، وتستقبل السكان المهمشين ثانياً، وفقا لمنصة Carin.info، المهتمة بنشر منشورات وأبحاث في العلوم الإنسانية والاجتماعية بالفرنسية.

جمعت هذه المناطق في البداية هؤلاء الذين جاءوا من المستعمرات بعد الحرب العالمية الثانية لإعادة بناء فرنسا، ثم تدفق المهاجرون أكثر مع نهاية الحرب الجزائرية، وبنيت أحياء مخصصة لهم. إذ يوجد أكبر تجمع لهم في حي سان دوني، الذي داهمته الشرطة بقوة بحثاً عن المُخطِّط الرئيسي لهجمات باريس عام 2015 "عبد الحميد أبا عود".

وبمرور الزمن، زادت الأعداد حتى شكلوا 10.3% من السكان في عام 2021 مقابل 6.5% عام 1968 بحسب المعهد الوطني للإحصاء والدراسات الاقتصادية في وثيقة بعنوان "المهاجرون وأحفاد المهاجرين في فرنسا".

ومثلما تزيد الأعداد، تزيد المشكلات والشعور الموروث بأنهم ليسوا كالباقين. على الرغم من أن فرنسا بدأت ما يسمى بـ"سياسة المدينة" لتحسين أوضاعهم. فاستثمرت الوكالة الوطنية للتجديد الحضري نحو 12 مليار يورو في الأحياء الشعبية بين عامي 2004 و2020.

لكن على ما يبدو لم تنجح هذه الخطط بالقدر الكافي. فتقول ستيفاني فيرميرش (مديرة الأبحاث في المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي)، إن "التحديث غيّر وجه عدد لا بأس به من الأحياء، لكن على صعيد المدرسة والتمييز والحصول على عمل والعلاقة مع الشرطة فلم يتغير الوضع الكثير".

كما أن الانتخابات الرئاسية الفرنسية ليس لها مكان كبيرًا عند ساكني هذه الأحياء. فيقول أحدهم ويدعى "رباح"، وهو بائع في السوق، في وقت الانتخابات الفرنسية عام 2012: "لم نر أي شخص يقوم بعمل حملات انتخابية هنا. نحن نتابع من بعيد". وفي الانتخابات الرئاسية لعام 2017، امتنع 48% من سكان هذه الأحياء البالغين عن التصويت، أو لم يسجلوا في القوائم الانتخابية، بحسب دراسة أجراها "معهد مونتين" عام 2020.

لذا قدم الكاتب أندرو هاسي تحليلا في صحيفة الغارديان بعد الاحتجاجات الأخيرة، عنوانه "في ضواحي باريس يشعر كثيرون أن شعار الجمهورية الفرنسية (حرية، مساواة، إخاء) لا ينطبق عليهم". تحدث فيه عن أن مثيري الشغب لم يهاجموا مراكز الشرطة فحسب، بل هاجموا مباني البلديات ومكاتب الضرائب والمدارس. ثم علق قائلا: "الغضب يتركز على كل ما تمثله الجمهورية الفرنسية، والسبب في ذلك هو أن جزءا كبيرًا من السكان المهمشين في الضواحي يشعرون أن هذا النموذج للدولة الديمقراطية لا ينطبق عليهم، ويخذلهم".

على الناحية الأخرى، لم تتعاطف ساندرا بليغ - وهي مصرية تعيش في جنوب باريس منذ 2009 – مع هؤلاء بأي شكل. فتحكي عن صدمتها حين خرجت إلى الشارع ووجدت التكسير والحرق في كل مكان، فتقول: "أرى أن المهاجرين وتحديداً العرب حاصلين على حقوقهم ويفرضون ثقافتهم ولغتهم، والدليل أن عددا كبيرا من المناصب الحكومية يتولاها أشخاص من أصول عربية"، وتكمل: "وحتى لو كان هناك تمييز بحقهم، ليس مقبول أبدًا أن يعبروا عنه بالتخريب!".

الشيء نفسه الذي تحدثت عنه عائلة الشاب "نائل" الذي اندلع كل ذلك بعد مقتله.. فدعت جدته إلى إنهاء العنف، واتهمت مثيري الشغب باستخدام موته كعذر.

الآن فرنسا باتت في حالة هادئة. لكنه هدوء مشكوك في استمراره. يمكن أن يتجدد في أي وقت.

فالرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، يبدو سيّء الحظ لدرجة كبيرة. فقد شهد عهده تظاهرات السترات الصفراء (حركة احتجاجية بدأت عام 2018 نادت بتخفيض الضرائب ورفع الأجور) وأزمات كوفيدـ19 وقانون إصلاح التقاعد، والآن أزمة الضواحي تقفز في وجهه.

ربما استقرت الأمور على الأرض، لكن وسائل التواصل الاجتماعي التي يلقي "ماكرون" اللوم عليها لازالت تضج غضبًا، ويمكن أن تشتعل الأمور في أي لحظة دون حتى أن تنتظر عود ثقاب.

اقرأ أيضًا:

"مرحبًا في فرنسا".. كيف وضعت "استراتيجية التعليم" الطلاب الأجانب في مواجهة الحكومة؟