دروس وعبر من العشر الأواخر من رمضان وسر إخفاء
كتب- محمد قادوس:
تحدث الدكتور محمود الهواري، الأمين العام المساعد للدعوة والإعلام الديني بالأزهر الشريف، عن أهمية العشر الأواخر من رمضان، وأهم الأعمال فيها، وعن شرف ليلة القدر وكيف يدركها المسلم، مؤيدا حديثه بما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من نقول صحيحة.
يقول الهواري لمصراوي: كل رمضان يتجدد الكلام عن موضوعات بعينها، وهذا لا يعني أنها مستهلكة أو قديمة، بل هي موضوعات متجددة، *تجدد في القلوب الإيمان، وتجدد في العقول الفكر، وترفع الهمة إلى بلوغ الدرجات، وسكنى الجنات، وتدعو إلى العمل والطاعات.*
ومن هذه الموضوعات المتجددة موسم العشر الأواخر من رمضان وما يتعلق بها.
وهذه الأيام العشر الأواخر من رمضان موسم متجدد للأمة من مواسم العطاء الرباني، وموسم من مواسم البذل الإيماني، ولهذه العشر عند سيدنا رسول الله صلى الله علية وسلم وأصحابه أهمية خاصة، ولهم فيها مشاعر مختلفة، وعبادات معينة.
يقول الأمين العام المساعد للدعوة والإعلام الديني بالأزهر: إن أول الدروس المستفادة من هذه العشر يدور حول *توقير الزمان والبر به، وربما كان الكلام عن بر الزمان جديدا عند بعض الناس، لكن الإسلام يأمرنا بالبر عموما، ويأمرنا بالإحسان مع كل شيء، فالبر في الإسلام ليس مقصورا على بر الوالدين أو الأقارب فحسب، بل البر يشمل الزمان والمكان والإنسان، بعض الأزمنة تحتاج إلى بر، وبعض الأماكن تحتاج إلى بر.*
ومعنى البر المقصود أن نقوم بالواجب الذي أمر الله به فيها.
وبين الهواري أن الله سبحانه وتعالى قد ميز زمان العشر الأواخر من رمضان بأن جعلها محلا للبركات وللنفحات وللعطاءات الإلهية، ومحلا لمضاعفة الأجور، ومحلا للقرب من الله الغفور.
والصالحون والمحبون من عباد الله تتحرك قلوبهم ومواجيدهم في هذه العشر لبلوغ رضوان الله، بألوان العبادة التي تجتمع في هذا الزمان، وقل أن تتوفر في غيره.
ومن طالع حال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عرف كيف كان يوقر هذا الزمان، ويستعد استعدادا خاصا لهذه الليالي المباركة في نفسه وفي عبادته وفي أهله.
والحديث المشهور المحفوظ الذي يصور حال سيدنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلم أخرجه مسلم في صحيحه أنه صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ كان إذَا دَخَلَ العَشْرُ، أَحْيَا اللَّيْلَ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ، وَجَدَّ وَشَدَّ المِئْزَرَ.
وأول العبارات التي تصف حال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه العشر، أنه كان يحيي الليل، وإحياء الليل وقيامه ليس بغريب على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو يحيي الليل قبل رمضان، ويحيي الليل في أول رمضان ووسطه، وهو الذي قال له رب العالمين: «يا أيها يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا»، فيفهم من هذا أن إحياء العشر كان له صفة خاصة أو طعم خاص.
وقد ورد في بعض روايات الحديث أنه كان يقوم الليل كله في هذه العشر يستغرقه في الصلاة والذكر والتفكر.
وبعض الناس يقصرون في حق أنفسهم، فتراهم لا يقومون الليل في رمضان إلا متكاسلين، وكأنما يساقون إلى القيام والصلاة سوقا، وفرق بين من يساق إلى الصلاة لكسله وإيثار حظ نفسه من الراحة، وبين من يسارع إليها ويطلب الراحة فيها ويؤثر أمر ربه على هوى نفسه.
*وما أحوج الأمة وخاصة شبابها الذين هم قوتها وطاقتها، ما أحوجهم إلى تعود الصبر على العبادة، بعد أن أثرت فيهم حركة الحياة السريعة.*
وأوضح الهواري، أهم الأعمال العظيمة في هذه العشر أنه صلى الله عليه وسلم كان يوقظ أهله للصلاة، وما أجمل أن تجتمع الأسرة على دين الله.
*وفي الإيقاظ للصلاة ملمح مهم وهو أن تجتمع الأسرة على هدف واحد، للخروج من أزمة العزلة التي تعانيها الأسرة، والتي تجتمع فيها الأبدان لكن كل قلب في مكان وكل عقل في فكرة، فهم في شتات صعب يقطعه الاجتماع على الطاعة والعبادة.*
وقال إن كثيرا من مشكلات حياتنا، وكثيرا من مشكلات الشقاق بين الأزواج حلها يكمن في عبادة الله سبحانه وتعالى، وفي الاجتماع على طاعته، وقد كان سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بهذا أحيانا، طرق رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عليا رضي الله عنه وفَاطِمَةَ بنْتَ النبيِّ عليه السَّلَامُ لَيْلَةً، فَقالَ: أَلَا تُصَلِّيَانِ؟ فهو لم يذهب إليهما للمسامرة، وإنما ليدلهما على ما يجمع الله به شمل الأسرة، ويوجد حالة من الألفة والود والرحمة بين الأزواج.
وما أحوجنا في زماننا هذا إلى هذه المعاني!
وذات مرة شَكَتْ السيدة فَاطِمَةُ عَلَيْهَا السَّلَامُ ما تَلْقَى في يَدِها مِن أثَرِ الرَّحى ممَّا تَطحَنُ، فلمَّا جاء إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ سَبْيٌ، انطلَقَتْ إليه فاطمةُ رَضيَ اللهُ عنها تَسألُه خادِمًا من هذا السَّبْيِ تستعين به على أمر بيتها، ولكنَّها لم تَجِدِ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في بَيتِه، ووجَدَتْ عائشةَ رَضيَ اللهُ عنها، فأخبَرَتْها بذلك، فلمَّا جاء صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أخبَرَتْه عائشةُ رَضيَ اللهُ عنها بمَجيءِ فاطمةَ رَضيَ اللهُ عنها إليه لتَسألَه خادمًا، قال علِيٌّ رَضيَ اللهُ عنه: فجاء النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلينا وقد أخَذْنا مَضاجِعَنا، أي: تَهيَّئْنا للنَّومِ، فذهَبْتُ لِأقومَ فقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: على مَكانِكما، أي: الْزَما مَكانَكما، وقال: ألَا أُعلِّمُكما خَيرًا ممَّا سألْتُماني مِن إعْطائِكمُ الخادِمَ؟ فقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «إذا أخَذْتُما مَضاجِعَكما»، وهي الأماكنُ المُعدَّةُ للنَّومِ مِن اللَّيلِ، فكبِّرا أربَعًا وثَلاثينَ مرَّةً، وسبِّحَا ثَلاثًا وثَلاثينَ مرَّةً، واحْمَدا ثَلاثًا وثَلاثينَ، فأجرُ هذا الذِّكرِ خَيرٌ لَكُما مِن خادمٍ.
وإيقاظ الأهل للصلاة في هذه العشر كان من هديه عليه الصلاة السلام، وحث الرجال إن هم وفقهم الله للخير من قيام أن يشاركوا زوجاتهم معهم، وحث الزوجات إن هن وفقهن الله للخير من قيام أن يشاركن أزواجهن، فقال: «رحم اللهُ رجلًا قام من اللَّيلِ فصلَّى وأيقَظَ امرأتَه، فإن أبَتْ نضحَ في وجههِا الماءَ، ورحم اللهُ امرأةً قامتْ مِن اللَّيلِ فصلَّتْ وأيقظتْ زوجَها، فإن أبى نضحَتْ في وجهِه الماءَ».
فلا ينبغي أن ينشغل الرجل بنفسه وطاعته وحده وينسى أهله، ولا المرأة كذلك فإن الله عز وجل يقول: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ»، ومثل هذا التوجيه الكريم من حرصه صلى الله عليه وسلم أن يتشارك الأزواج في عمل الخيرات والتقرب بالطاعات، مما يعين على مشكلات الحياة.
وبين الأمين العام المساعد للدعوة والإعلام الديني بالأزهر، أعمال العشر الأواخر التي جاءت عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه كان يشد المئزر، والمعنى إما أنه كناية عن شدة العناية بهذه الأيام المباركة، أو أنه كان يعتزل النساء في هذه الأيام، ويؤثر الطاعة على الشهوة وينشغل بالعبادة؛ لتصفو نفسه من الأكدار فتكون أقرب لسمو القلب إلى معارج القبول.
ومن أعمال العشر الأواخر من رمضان الاعتكاف والانقطاع عن الدنيا، ولم يترك سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة الاعتكاف حتى قبضه الله إليه.
وكأنما يفتح للأمة بهذا العمل بابا للرجاء، ويدلهم على طريقة يدركون بها ليلة القدر التي يحرص الناس على طلبها وقيامها، فمن اعتكف كان أعون له على إدراك ليلة القدر.
وقد روى البخاري أنه عليه الصلاة والسلام اعتكف في العام الذي قبض فيه عشرين يوما، وما أحوج الناس في هذا العصر الذي طغت فيه المادة إلى أن يرجعوا إلى الروح ويلبوا نداءها.
وبالصيام والقيام والاعتكاف وقراءة القرآن تجتمع للعبد أمارات التوفيق، فالصوم وقاية للقلب من الشهوات، وتقوية له على اتخاذ قرار بترك المحرمات، ودعوة للإنسان إلى ترك الفضول من الطعام والشراب والشهوة، والاعتكاف فيه سر عظيم يحفظ الإنسان من فضول المخالطة التي تفسد القلب والعقل، وكأن هذه العشر علاج نافع للبدن والروح معا، وللعقل والقلب معا.
ومما يجدر التنبه له أن الاعتكاف قد يصح بأقل جزء من النهار أو الليل في هذه العشر، وليس شرطا أن يعتكف الإنسان العشر كلها ليلها ونهارها، نعم السنة أن يعتكف الإنسان العشر الأواخر، لكن يصح أيضا أن يعتكف بعض العشر الأواخر نهارا أو ليلا.
وبين الهواري لو أن إنسانا له تعلق بوظيفة أو عمل عليه قوام حياته، ولا يستطيع أن يعتكف العشر كاملة، فإنه يجوز له أن يعتكف ولو جزءا من العشر.
وأما ليلة القدر من هذه العشر فهي الجائزة الكبرى لمن قدر الله له بلوغها.
وسميت ليلة القدر بهذا الاسم؛ لأن الله جل جلاله ينزل فيها ملائكة ذوي قدر، وقيل: لأنها نزل فيها كتاب ذو قدر، بواسطة ملك ذي قدر، على رسول ذي قدر، وأمة ذات قدر، كما قيل: لأن للطاعات فيها قدرًا عظيمًا، كما قيل: لأن من أقامها وأحياها صار ذا قدر، ولا مانع أن تكون التسمية بهذا الاسم لجميع هذه المعاني.
وقال عن هذه الليلة: إن ليلة القدر لها فضل كبير أعلنه القرآن الكريم، فهي ليلة نزول القرآن خير كتاب على خير أمة، قال تعالى: «إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ»، وهي ليلة يقدر الله فيها أقدار العباد، قال تعالى: «فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ» ففي هذه الليلة يقدر الله أقدار العباد في عامهم، ويكتب فيها الأحياء والأموات، والسعداء والأشقياء، فطوبى لمن قامها بين يدي ربه يطلب منه أن يكتبه في ديوان المقبولين.
ومن فضائلها أنها ليلة مباركة، قال تعالى: «إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ»، وأن العبادة فيها تفضل العبادة في ألف شهر، قال تعالى: «لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ» يعني ما يزيد على ثلاث وثمانين سنة وأربعة أشهر.
ومن فضائلها أن أمين الوحي جبريل عليه السلام والملائكة يتنزلون فيها بإذن ربهم، وأنها ليلة سلام وسكينة حتى مطلع الفجر، يقول الله عز وجل: «تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ»، فهي ليلة خالية من الشر والأذى.
فالواجب على المسلم في هذه الليالي المباركة أن يجتهد، ليعيد صياغة نفسه مرة أخرى، ويخرج منها عبدا ربانيا، يسمع لله ويطيع.