دروس وعبر في مسألة تحويل القبلة.. يكشف عنها
كـتب- علي شبل:
كشف الدكتور عطية لاشين، استاذ الفقه والشريعة الإسلامية بجامعة الأزهر الشريف، عن بعض الدروس والعبر من قضية تحويل القبلة في الإسلام من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام بمكة المكرمة.
يقول لاشين مصدراً حديثه عن حادث تحويل القبلة من المسجد الأقصى بالشام إلى بيت الله الحرام بمكة المُكّرمة بقول الحق سبحانه: ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا ۚ قُل لِّلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ۚ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (142) وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ۗ وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ ۚ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ۗ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ البقرة : الآيات 142-143
ومن خلال هذه الآيات المباركات، ومن خلال هديها وأنوارها ونفحاتها، يستخلص العالم الأزهري الدروس والعبر من تحويل القبلة، ونشرها عبر صفحته الرسمية على فيسبوك، وهي على النحو الآتي:
أولا: إعجاز القرآن الكريم
وهذه العبرة مستنطقة من قول الحق جل وعز ﴿ سَيَقُولُ ﴾ إذ أن الله الذي لا يعلم الغيب إلا هو أخبر عن ردة فعل جميع الفئات إذا ما أخبروا بتحويل قبلة المسلمين إلى البيت الحرام قبل أن تحدث هذه الردود التى معظمها سلبية، وتنم عن معادن خبيثة لهؤلاء الأقوام.
ولو كان عِند هؤلاء أدنى فِطنة وفهم يستثمروا هذه الفرصة التي جاءتهم على طبق من ذهب ،ولقالوا بعكس ما أخبر عنهم القرآن ،ولكن أنّى لهم ذلك ،وأجسادهم وجميع جوارحهم المادية من لسان ويد ورجل، والمعنوية من قلب وعقل مملوكة لمن خلق كل شئ فسواه وقدره فهداه، هذه الجوارح لا تستطيع أن تنطق بخلاف ما أخبر الله، لأن الذي أخبر بذلك رب الملك والملكوت، وصاحب العزة والجبروت، الذي إذا أخبر كانت إخباراته واقعة لامحالة ،قال الحق سبحانه: ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا﴾ النساء 87 ، وقال جل وعز: ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً﴾ النساء 122، ومن خلال هذه العبرة البالغة، والموعظة السامية يُمكن القول بأن إعجاز القرآن الكريم تمثل في صدق ما جاء به، ولايستطيع كائن من كان تكذيب ما جاء في القرآن من أوامر ونواهٍ ووعد ووعيد، وقصص وحكايات السابقين والجنة والنار والصراط والميزان.
ثانيا: وجوب الامتثال المطلق لما أمر الله
نستخرج هذه العبرة من قول الحق فيما سبق : ﴿قُل لِّلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ﴾ وفي آية أخرى : ﴿وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ۚ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّه﴾ البقرة 115.
ومجموع ما جاء فى الآيتين أن الأماكن كلها بجميع جهاتها: شرقها وغربها ،شمالها وجنوبها مملوكة لله عز وجل ،وليس لجهة معينه مميزة على ماسواها لأنها مملوكة كلها للواحد الأحد،إذن لم يتبق للعبد إلا أن يمتثل للجهة التي أمر الله باستقبالها في الصلاة أيا كانت هذه الجهة إذ أنها ليست مفضلة لذاتها ،ولا تتميز عن غيرها إلا بتفضيل الله الخالق ومالك هذه الجهات، فسواء أمرنا بإستقبال جهة صلاتنا إلى الشام، أو إلى المسجد الحرام ،أو إلى أي مكان سوى هاتين الجهتين فما على العبد إلا أن يمتثل لما أمرالله ،وكأن لسان حاله يقول: سمعنا وأطعنا وسلمنا ونفذنا ،ولا اعتراض على امر الله سبحانه وتعالى فهو كما أخبر عن نفسه في كتابه : ﴿لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾ الأنبياء 23.
وهذا ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه من الامتثال المطلق والتنفيذ الكامل ،والاستسلامم التام لقول الرحمـن : ﴿ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ .
ثالثا: وسطية الأمة الإسلامية وخيريتها
تتجلى هذه العبرة من خلال قول الرب الجليل فيما سبق من النصوص التى تحدثت عن تحويل القبلة ﴿ وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾.
والوسطية التي وصفت بها الأمة الإسلامية دون غيرها من الأمم الأخرى معناها الأفضلية والخيرية والرفعة وبالجملة وسطية في كل شئ حتى في تكليفاتها الشرعية ليس بها شطط ولا غلو ،ولا يعجزالمكلفون عن تنفيذها.
وسطية بين المادة والروح فلا هي أعلت من شأن المادة كما فعلت بعض الأمم، وأهملت الأعتناء بالروح ،ولاهي أعلت من شأن الروح وأهملت المادة كما فعلت بعض الأمم الأخرى وإنما أهتمت بكليهما أي المادة والروح على حد سواء، وجاء في الأخبار : " ليس خيركم من ترك الآخرة للدنيا، ولا خيركم من ترك الدنيا للآخرة،ولكن خيركم من أخذ من هذه وهذه"
وفي خيرية وأفضلية الأمة الإسلامية يقول الحق سبحانه : ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ آل عمران: 110
ولأن أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وسط خصها الله بأكمل الشرائع وأقوم المناهج وأوضح المذاهب كما قال ابن كثير في تفسيره.
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم وسطا في قومه أي أشرفهم وأفضلهم نسبا ،ومنها الصلاة الوسطى الوارده في قول الحق عز وجل : ﴿ حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَىٰ ﴾ البقرة 238. أي التي هي أفضل الصلوات وهي صلاة العصر كما ثبت في الصحاح.
ولم تقتصر خيرية أمة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم في الدنيا فقط، بل تمتد خيريتها إلى ما بعد الحياة، ومن مظاهر هذه الخيرية الأخروية لأمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أن الله عز وجل جعل نبيها شاهداً للآنبياء أجمعين في تبليغهم قومهم رسالات الله رب العالمين، وجعل أمته كذلك شاهدة على جميع الأمم بأن أنبيائهم أبلغوا رسالات الله.
روى الإِمام أحمد في مسنده عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم : ( يُدْعَى نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلام يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُقَالُ لَهُ : هَلْ بَلَّغْتَ ؟ فَيَقُولُ : نَعَمْ ؛ فَيُدْعَى قَوْمُهُ فَيُقَالُ لَهُمْ : هَلْ بَلَّغَكُمْ ؟ فَيَقُولُونَ : مَا أَتَانَا مِنْ نَذِيرٍ أَوْ مَا أَتَانَا مِنْ أَحَدٍ , قَالَ : فَيُقَالُ لِنُوحٍ : مَنْ يَشْهَدُ لَكَ ؟ فَيَقُولُ : مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ , قَالَ : فَذَلِكَ قَوْلُهُ تعالى : ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ﴾ فتشهدون له بالبلاغ ثم أشهد عليكم والأحاديث ومن قبل ذلك الآيات كثيرة التي تثبت شهادة النبي وأمته للأنبياء وعلى أمم الأنبياء.
قال الله عز وجل ﴿ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدً ﴾ النساء41.
وقال سبحانه ﴿ وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ ۖ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَىٰ هَٰؤُلَاءِ ۚ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ ﴾ النحل 89.
ومن مظاهر خيرية وأفضلية أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أنها ستكون من أول الأمم مروراً وعبوراً على الصراط حينما يُقام الصراط ويضرب على ظهر جهنم.
روت كتب السنة الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال }يُضرب الصراط على ظهر جهنم فأكون أنا وأمتي أول من يجوزه (أى يعبره) { رواه البخارى فى صحيحه حديث رقم 806 ،ومسلم فى صحيحه برقم 182.
رابعا: وجوب العمل بخبر الواحد
تنقسم الأحاديث المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم من حيث سندها أقساما
أ- حديث متواتر وهو الذي رواه جمع عن جمع يؤمن تواطؤهم على الكذب عن سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ،وهذا النوع من الأحاديث أعلى إسنادا وصحة ،وهي أحاديث إذا ما قورنت بغيرها عددها قليل .
ب- حديث آحاد : وهو الذي رواه واحد عن واحد عن سيدنا المصطفى صلى الله عليه وسلم وهذه الآحاديث من الكثرة والوفرة بمكان فهي في نظر العلماء الراسخين في العلم العدول المنصفون مثل الأحاديث المتواترة في وجوب بناء الأحكام الشرعية عليها طالما ثبت صحتها ،وانتهى سندها ورُفعت إلى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم والدليل على أنه لا تفرقه في بناء الأحكام على الحديث سواء كان متواترا أو أحاداً حادث تحويل القبلة ،فالكل شرع على حد سواء.
روى الإمام البخاري في صحيحه كتاب التفسير أثناء تفسيره لقول الله عز وجل : ﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ ﴾ عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر- رضى الله عنه- قال : بينما الناس يُصلون الصبح في مسجد قباء إذ جاء رجل فقال : قد أُنزل على النبي صلى الله عليه وسلم قرآن ،وقد أمِر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها فتوجهوا إلى القبلة وهم في صلاتهم.
وهذا يدل على كمال طاعتهم لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم وانقيادهم لأوامر الله عز وجل ،ورضي الله عنهم أجمعين.
ويدل فضلا عما سبق على وجوب العمل بخبر الواحد إذ أن الذي أخبرهم بالتحويل واحد ،فصدقوه ولم يكذبوه وألزموا أنفسهم على وجه السرعة بالأمتثال والتطبيق لما بلغهم من أمر تحويل القبلة و إستداروا وهم في صلاتهم واستقبلوا الكعبة فيما بقي لهم من الصلاة.
والأدلة متضافرة وبها كثرة كاثرة للأستدلال بها على حجية وجوب العمل بخبر الواحد مادامت صحبة قائمة وفي هذا حجة قاطعة ،وبينة دامغة تدحض ،وتجعل كلام من لم يحتج بخبر الواحد ساقطا ومردودا حيث يترتب على كلامهم آثار سلبية قاتلة وهي سقوط كثير من الأحكام والتكليفات الشرعية لانبنائها على خبر الواحد ،كبرت كلمة تخرج من أفواههم ان يقولون إلا كذبا.
اقرأ أيضًا: