طوفان الأقصى.. كيف يستعد أهالي غزة لحرب طويلة
- مارينا ميلاد:
قطاع غزة، ضجيج طائرات يمر ويختفي بسرعة، لكنه يترك في ثوانِ أثره المزعج والمخيف على مصطفى العفارنة ومن معه في تلك الغرفة المظلمة الضيقة.. فهي ليست طائرات عادية، إنما طائرات استطلاع إسرائيلية يألفون صوتها، ويدركون أن تحليقها فوقهم ينذر بقصف ودمار جديد، ولا يعرفون ما الذي سيطوله هذه المره؟.
ولا شئ بوسع "مصطفى" وأسرته -المختبئين في أحد الملاجئ- فعله في تلك اللحظات سوى البقاء مكانهم.
فلقد حلت الساعات المظلمة على غزة وسكانها من جديد بعد أن باغتت كتائب القسام التابعة لحركة حماس، إسرائيل، بعمليتها العسكرية "طوفان الأقصى"، لترد الأخرى بعملية "السيوف الحديدية"، وما بين الاثنين، قُتل أكثر من 1100 شخص من الجانبين، ونزح حوالي 180 ألف فلسطيني (وفقًا لوكالة غوت وتشغيل اللاجئين الفلسطنيين الأونروا).
منذ اللحظة الأولى لهجوم "حماس" المذهل في نطاقه والأكثر إرباكًا لإسرائيل منذ حرب عام 1973، استعدت أسرة مصطفى العفارنة بحقيبة لا يخلو منها أي بيت فلسطيني تقريبًا، تسمى "حقيبة الطوارئ" وتحمل أوراقهم المهمة والبطاقات وجوازات السفر.
يقول "مصطفى"، البالغ عمره 24 عامًا: "لقد توقعنا أن إسرائيل لن تسكت.. لكن لم نتوقع كل ما رأيناه لاحقًا".
فمع بداية نهار السبت، حيث يوم الإجازة المقدس لدى الإسرائيلين، هاجم عناصر "حماس" خصمهم برًا وبحرًا وجوًا، حيث شقوا بجرافتهم الحواجز، مزقوا الأسلاك الشائكة، وانطلقوا إلى الداخل الإسرائيلي بسيارتهم ودرجاتهم النارية.
دوّت صفارات الإنذار المعتاد سماعها في إسرائيل، لتتدفق بعدها مقاطع الفيديو عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وتظهر إسرائيليون يركضون من بيوتهم مذعورين، وغيرهم تمر الصواريخ فوق رؤوسهم، فينقلب رقصهم في حفل إلى صراخ وفرار عبر الصحراء. كما تظهر على الناحية الأخرى، احتفال الفلسطينيين بكسرهم للحصار وسيطرتهم على مستوطنات واحتجازهم للمقيمين فيها.
لكن سرعان ما تحركت إسرائيل لتأخذ مواقعها الدفاعية، فأعلن بنيامين نتنياهو (رئيس وزرائها) حالة الحرب وتعهد بالانتقام من "حماس".
"حماس" التي تطورت وخرجت من الأنفاق حتى صارت صواريخها تصل إلى الداخل الإسرائيلي، كشفت عن أسلحة ومعدات جديدة استخدمها مقاتلوها للمرة الأولى.
وبعد يوم واحد (الأحد)، بدت صورة غزة المحتفلة مختلفة تمامًا.. لقد غطتها سحب من الدخان الأسود سماءها، وتلقت أسرها ومنها أسرة "مصطفى" الساكنة منطقة بيت حانون (شمال القطاع) رسائل نصية من الجيش الإسرائيلي، تنصحهم بإخلاء بيوتهم والذهاب إلى الملاجئ.
رحل "مصطفى" وأسرته، وهم أكثر من 20 شخصًا، إلى الملجأ بإحدى مدارس الأونروا (وكالة غوث وتشغيل اللاجئين التابعة للأمم المتحدة)، ليصبح في تعداد النازحين الذين بلغوا 180 ألف شخص في 83 مدرسة، تعرضت إحداها للقصف أيضًا، وفقًا للوكالة.
يتحدث "مصطفى" عبر الرسالة الصوتية وصوت القصف في الخلفية، ويقول: "لأول مرة تصل هذه الرسائل للمدينة كلها.. في الحروب السابقة كانوا يرسلونها فقط لأصحاب البيوت من فئة المطلوبين والمجاهدين.. لكن اليوم جاء لنا الخبر بإبادة منطقتنا بالكامل".
ولم يكن هذا رحيل الأسرة الأول.
في عام 2014، وبينما كان "مصطفى" في عمر الـ14، دمرت منطقته وبيوت عائلته جراء القتال الذي دار سبعة أسابيع بين طرفي الصراع. فيقول أحد سكانها آنذاك، وهو يقف بجوار حطام منزله "كانت بيت حانون يطلق عليها سلة الفاكهة - أرض الليمون والبرتقال.. إسرائيل حولتها إلى أرض محروقة".
يتذكر "مصطفى" تلك الحرب كمشاهد متقطعة حفظتها ذاكرة طفل، تصور "حربًا واسعة، وركام وخراب"، كما يصف. وقتها، هربت أسرته "الكفارنة" إلى وسط غزة، حيث مدارس الأونروا، لكنهم كانوا يحصلون على دعم ومساعدات بعكس الآن. فوزير الدفاع الإسرائيلي أعلنها صراحة "لن تصل الكهرباء أو الطعام أو الوقود إلى القطاع".
وما بين زمني الحربين، تتصاعد المواجهات ويسقط الضحايا ثم تتدخل أطراف عدة وتهدأ الأمور.. وتتكرر المشاهد نفسها مرّة بعد مرّة.
فدائمًا ما كان السياج الحدودي الفاصل بين الطرفين منطقة توتر خطيرة. فالفلسطينيون يخاطرون بحياتهم لأجل كسر حصار بدأ عند استيلاء "حماس" على الحكم عام 2007، حصار قيدهم وخنق اقتصادهم، وأبقت معه إسرائيل -عند حدود المنطقة العازلة- عدداً من التجمعات تتكون من حوالي 50 مستوطنة معروفة بـ"غلاف غزة".
إنه الخط الفاصل، الذي تعرض لهجوم "حماس" الأخير.
وكلما اقتربت مناطق غزة من تلك المنطقة ازداد قلق ساكنيها، لذا يحكي "مصطفى" أن سكان المناطق القريبة من الحدود يلجأون إلى مدارس الأونروا من أول دقيقة لاندلاع أي مواجهة وحتى آخر دقيقة، بعكس منطقته، التي تبعد قليلا.
فيقول: "كنا نصمد في بيوتنا لسوء الحال في المدارس وازدحامها".
لكن هذه المرة ليست كغيرها، فاضطرت الأسرة للذهاب إلى الوضع الذي تجنبته كثيرًا.. فكل ما حولهم ومروا عليه أثناء خروجهم من البيت دفعهم إلى ذلك: جثث تحت الأنقاض، ركض جيرانهم، والأصوات المتداخلة لصراخ وصافرات الإسعاف.
وفي ظلام ممتد لساعات طويلة، يبيت نحو 30 شخصًا من سيدات ورجال وأطفال في غرفة واحدة، بلا حمام أو أي احتياجات. هكذا وضع كل غرف المدرسة التي لجأ إليها "مصطفى"، كما يروي.
وعلى مقربة منهم، لازال الجيش الإسرائيلي يشتبك مع مسلحي حركة حماس في مواقع بالقرب من الحدود مع غزة. وبالتوازي، يشن غاراته على القطاع، فيتباهي بقصفه "أكثر من 500 هدف" لحركتي حماس والجهاد الإسلامي خلال ليل الأحد الإثنين.. بينما يقول "مصطفى" إن "قصفهم عشوائي في كل مكان وبجنون".
يدور الحديث بين الجالسين على "من استشهد، من لازال على قيد الحياة، ومن بيته تم قصفه؟"، وفقا لما يخبرنا به "مصطفى". ثم تأتيهم الأخبار ممن استطاع منهم التقاط شبكة إنترنت، ليعرفوا أن منطقتهم "بيت حانون" تعرضت لوابل من الصواريخ، دمر عدد من المنازل وطرق وشبكات المياه والكهرباء.
أول المتألمين من ذلك، كان والدا "مصطفى". بدا له ذلك من ملامحهما دون أن ينطقا بكلمة واحدة. فرغم أن ذاكرتهما كلها نزاعات مريرة بقدر عمرهما، إلا أن تلك اللحظة كانت الأكثر قسوة. فبلغهما خبر دمار منطقة عاشا فيها طيلة حياتهما، ولم يعرفا هل منزلهما ضمن تلك البيوت المنهارة أم لا؟، وهل مات أقاربهم وجيرانهم أم لا؟.
لاحقا، تأكد "مصطفى" أن جيرانهم الذين تأخروا في الخروج من بيوتهم، تم قصفهم دون سابق إنذار، حسبما يحكي، ويذكر منهم عائلتا "شبات"، التي فقدت 18 شخصاً، و"الزعانين"، وراح منها 20.
وتحولت جمعية المساعدة الطبية الخيرية للفلسطينيين في غزة إلى "مجزر"، كما يصفها محمود شلبي (مدير الجمعية) في تصريحات له. فقال "المئات ممددون على الأرض في قسم الطوارئ، والعديد من الجثث في المشرحة، ولم تتمكن الطواقم الطبية من التعامل مع هذا التدفق الهائل للضحايا".
يمدد مصطفى الكفارنة جسده على الأرض، ويتوقف لوقت عن التواصل، ثم يعود ليقول: "لا يمكن أن أتحرك من مكاني أو أن يكون هاتفي مضيء الآن.. الطيران فوقنا".
لا شئ يمكن لـ"مصطفى" فعله في هذا الوقت الذي تكتم فيه الأنفاس، سوى التفكير، التفكير في أنه من المفترض أن يكون في مصر الآن لاستكمال سنته الجامعية الرابعة. فمصطفى طالب طب في جامعة عين شمس، وجاء منذ شهر ونصف لزيارة أسرته، ولم يكن يتخيل أن تتحول إجازته إلى أسوأ أيامه.
من الصعب لهذا الشاب أن يتوقع القادم، لكنه يبدو أشد هولاً. فأثناء حديثه قامت الولايات المتحدة بتحريك حاملة طائراتها وقالت إنها سترسل المزيد من الأسلحة لإسرائيل، لذا فكل المؤشرات التي يصدقها سكان غزة عن خبرة – وبينهم "مصطفى" – أنها حرب طويلة الأمد وأن هناك هجومًا بريًا آتيًا.
الثمن هذه المرة كبير.. فنشرت صحيفة هآرتس الإسرائيلية مقالاً بعنوان "7 أكتوبر 2023: تاريخ سيبقى عاراً على إسرائيل"، كتبه الدبلوماسي والكاتب ألون بينكاس. واعتبر فيه أن "الدولة فشلت في حماية مواطنيها". فقال: "هذا هو يوم الغفران عام 1973 مرة أخرى، مع فارق واحد: الخسائر التي لحقت بإسرائيل عام 1973 كانت على حساب الجيش. لكن الهجوم الأخير أودى بحياة مدنيين، وأرعب بلداً بأكمله، وكان مهيناً بقدر ما كان مميتاً".
وسط ذلك، لا يجد "مصطفى" المختبئ بغرفة مكتظة كلمات تليق بوصف شعوره.. فيكتفي بقوله: "أنا أتحدث معك الآن، يمكن بعد لحظات أن ترى اسمي أو صورتي ضمن الضحايا.. لا أحد هنا يضمن حياته في الثانية المقبلة".
ولم نستطع الوصول لـ"مصطفى" بعد هذه الرسالة الأخيرة وحتى اللحظة.