البيان الخامس.. يوميات الحرب من البيانات
كتب - محمود الشال
"هنا القاهرة، جاءنا الآن البيان التالي من القيادة العامة للقوات المسلحة"، مقدمة الإذاعي حلمي البلك لأشهر بيان عسكري عرفه المصريون على مدار 50 عامًا؛ إذ يتلو: "نجحت قواتنا في اقتحام قناة السويس في قطاعات عديدة واستولت على نقاط العدو القوية بها ورفع علم مصر على الضفة الشرقية للقناة"، وعلى الرغم من شهرته فهو لم يكن البيان الأول، وليس الأخير.
البيان الذي أعلن رفع العلم المصري على الضفة الشرقية، وشن هجمات عسكرية مشتركة بين الجيش المصري والسوري على مواقع العدو، هو البيان الخامس، وصدر في تمام الساعة الرابعة، بعد قيام حرب أكتوبر بـ 110 دقيقة، سبقته 4 بيانات أعادت الأمل للمصريين في استعادة سيناء، وتبعها 57 بيانًا، ليبلغ إجمالي بيانات القيادة العامة للقوات المسلحة 64 بياناً خلال 20 يوماً هي مدة حرب أكتوبر.
أطلعت بيانات القوات المسلحة الشعب على تفاصيل ما يدور على جبهات القتال برًا وبحرًا وجوًا، تخبرهم عن شجاعة أبنائهم، وتنقل لهم بسالة جنودهم، وتوثق يوميات أهم حروب الجيش المصري.
مرحلة المناورة
صدر البيان الأول للقوات المسلحة في تمام الساعة 2:10 مساء، يخبر عن قيام قوات العدو في الساعة الواحدة والنصف بعد ظهر السادس من أكتوبر بمهاجمة قواتنا، بمنطقتي الزعفرانة والسخنة بخليج السويس، بواسطة تشكيلات من قواته الجوية، وتقوم قواتنا حالياً بالتصدي للقوات المغيرة، ولكن في الحقيقة صدر البيان من أجل التمويه.
صدر البيان الثاني بعد 15 دقيقة من البيان الأول، ليؤكد توجيه ضربة جوية مصرية سورية، لقواعد العدو وأهدافه العسكرية في الأراضي المحتلة، ثم صدر البيان الثالث ليؤكد نجاح الضربة الجوية، ثم البيان الرابع الذي يعلن مطاردة قواتنا المسلحة للعدو على الضفة الشرقية، حيث كان الاشتباك لا يزال مستمرًا.
سبق البيان الخامس والشهير 53 دقيقة، وهي أطول مدة زمنية بين بيانين في تلك المرحلة، وثاني أطول البيانات من حيث عدد كلماته الـ 38، من بين 5 خطابات، إجماليها 176 كلمة، واتسمت البيانات الخمسة بالاقتضاب.
الخط الزمني ونصوص البيانات اليومية خلال حرب أكتوبر
أصدرت القيادة العامة للقوات المسلحة خلال حرب أكتوبر متوسط 3 بيانات يومية، وصدر أكبر عدد منها في اليوم الأول، بـ 9 بيانات، ثم اليومين الثاني والثالث بخمسة بيانات لكل منهما، وبدأ عدد البيانات يقل تدريجياً، حتى صدر بيان واحد فقط في 18 أكتوبر، وذلك أثناء اختراق قوات العدود لقرار وقف إطلاق النار، ومحاولة اكتساب مناطق جديدة، من خلال تسلل بعض قواته إلى منطقة "الدفرسوار".
يوميا كان الشعب على موعد مع بيان للقوات المسلحة، في الفترة ما بين العاشرة صباحاً إلى الواحدة ظهراً، يخبره عن المعارك الليلية أو التي دارت في صباح يوم البيان، أو تفند حصيلة الخسائر لجيش العدو، والمناطق الجديدة التي اكتسبتها قواتنا المسلحة، بينما البيانات المسائية كانت إما بصيغة مواصلة المعارك والنجاحات، أو بيانات عاجلة.
أعنف المعارك
أصدر الجيش 64 بيانًا في 6278 كلمة، لكن كلمة "أعنف" لم تُذكر إلا مرتين فقط؛ المرة الأولى في 14 أكتوبر، في البيان رقم 39، الصادر الساعة التاسعة والربع مساء، بشأن معركة المنصورة الجوية، قائلا: "دارت اليوم عدة معارك جوية بين قواتنا الجوية وطائرات العدو التي حاولت مهاجمة قواتنا ومطاراتنا وكان أعنفها المعركة التي دارت بعد ظهر اليوم فوق شمال الدلتا".
"معركة المنصورة الجوية" هكذا عُرفت تلك المعركة لاحقا، وتصنف ضمن أكبر المعارك الجوية من حيث عدد الطائرات المشاركة وأطولها من حيث الفترة الزمنية المُقدرة بنحو 53 دقيقة، ولذلك أصبح يوم 14 أكتوبر عيدًا للقوات الجوية المصرية.
في ذلك اليوم، حاولت القوات الجوية الإسرائيلية تدمير القواعد الجوية الرئيسية بدلتا النيل في طنطا والمنصورة والصالحية فتصدت لها الطائرات المصرية، وكان هذا أكبر هجوم جوي تشنّه إسرائيل ضمن سلسلة من الهجمات الجوية التي استهدفت المطارات المصرية بقوة قُدرت بحوالي 120 طائرة إسرائيلية وقد انتهت المعركة بفشل الطائرات الإسرائيلية في تحقيق أهدافها من الهجوم وانسحابها.
ونتيجة المعركة تكبد الجيش الإسرائيلي خسائر فادحة، تقدر بـ 10% من قوة سلاحه الجوي، فبحسب البيان المصري دُمرت خلالها للعدو 15 طائرة، وأُسقطت 29 طائرة للعدو منها 2 طائرة هليكوبتر، ليرتفع إجمالي خسائر العدو من الطائرات في معارك ذلك اليوم إلى 44 طائرة.
وحينما ذكرت كلمة "أعنف" للمرة الثانية والأخير، كانت تخص معارك "الدفرسوار".
معارك "الدفرسوار"
في اليوم السابع بعد معركة المنصورة، أصدرت القيادة العامة للقوات المسلحة، بياناً جديدًا عن معركة أخرى من أعنف معارك حرب أكتوبر، حيث دارت طوال يوم 21 أكتوبر "أضخم وأعنف المعارك"، بين التشكيلات البرية للجيش المصري وقوات العدو شرق قناة السويس وفي منطقة الدفرسوار.
ونجحت القوات المصرية في السيطرة على المعارك من خلال الهجمات المضادة لتضم بعدها أجزاء جديدة من الأرض شرق القناة، وتتمكن من أسر عدد من أطقم الدبابات المعادية.
وتقدر خسائر العدو في ذلك اليوم فقط بـ 147 معدة عسكرية بخلاف الخسائر البشرية الفادحة، حسب البيان رقم 53 الذي صدر الساعة التاسعة إلا دقيقتين من مساء يوم 21 أكتوبر.
لا تمر ذكرى أكتوبر بدون الحديث عن منطقة الدفرسوار، والثغرة الشهيرة خلال حرب أكتوبر.
ذكرت بيانات القيادة العامة منطقة الدفرسوار 12 مرة خلال فترة الحرب، جميعها بعد فترة الثغرة، وتعلق أغلبها بضراوة القتال، حيث ذكرت لأول مرة في 19 أكتوبر؛ حيث دارت معركة ضارية اشتركت فيها التشكيلات البرية المصري، والمدافع والطائرات، على طول الجبهة، وفي اليوم التالي ذكرت "الدفرسوار" للمرة الثانية، بعد يومين من تواصل المعارك، ليتكبد الجيش الإسرائيلي خسائر فادحة، تتضمن 85 دبابة و56 عربة نصف مجنزرة، وإسقاط 10 طائرات.
وفي 21 أكتوبر كانت معارك الدفرسوار لا تزال دائرة، وأبطالها حسب البيان 51، هي الدبابات والتشكيلات البرية، وبحلول الخامسة مساء، أعلنت القوات المسلحة تدمير 5 طائرات كانت تحاول إمداد القوات الإسرائيلية المحصورة في منطقة الدفرسوار.
وأعلن الجيش المصري لأول مرة عن ثغرة الدفرسوار، في البيان رقم 55، الصادر في العاشرة صباحا، معلنا خرق الجيش الإسرائيلي قرار وقف إطلاق النار، والدفع بعدد من دباباته إلى منطقة الدفرسوار محاولاً التسلل لاكتساب بعض المواقع الجديدة.
وفي 24 أكتوبر الساعة الثانية عشرة صباحا، أصدرت القوات المسلحة بيانًا مفصلًا عن ثغرة الدفرسوار، حيث وصفتها لأول مرة بالثغرة.
وقال البيان رقم 58، إن القوات المصرية تسيطر على الشرقي لقناة السويس من بورفؤاد عدا ثغرة بسيطة من الدفرسوار، مؤكدا عدم وجود أي قوات للعدو غرب القناة في القطاع الشمالي من طريق الإسماعيلية.
المناطق
وكانت سيناء هي أكثر المناطق ذكرا في البيانات، بـ 37 مرة، فهي ساحة الحرب الرئيسية، ثم القناة بواقع 32 مرة، تليها السويس 26، ثم الدفرسوار 12، والدلتا 6، وبورسعيد 5، ثم القاهرة 3 مرات.
الأسلحة
الطائرات كانت السلاح الأكثر ورودًا في البيانات الـ 64 خلال فترة الحرب، 134 مرة، بنسبة 45.4% من إجمالي مرات ذكر جميع الأسلحة في البيانات، تليها الدبابات 51 مرة، ثم أسلحة الدفاع الجوية.
وذكرت البيانات طراز الأسلحة 7 مرات فقط، 6 مرات منها كانت متعلقة بخسائر العدو، وحسب البيانات تم تدمير 22 طائرة من طراز "فانتوم"، و 15 طائرة طراز "ميراج" ودبابتين من طراز "باتون"، وبطاريتي صواريخ طراز هوك تم تدميرهما على أراضي مطارات العدو.
باستثناء الـ 6 مرات جاء ذكر طائرتين من طراز "لوكهيد SR-71"، وكان ذلك بسبب اختراقهما للمجال الجوي المصري لأول مرة، حسب البيان الصادر في 13 أكتوبر الساعة التاسعة مساء، وهو نوع من الطائرات تصل سرعتها إلى 3 أضعاف سرعة الصوت، ولا تملكها سوى الولايات المتحدة الأمريكية.
طائرتا "لوكهيد SR-71" هما طائرتا استطلاع اخترقتا المجال الجوي من شمال بورسعيد ووصلتا إلى نجع حمادى ثم عادتا شمالًا في اتجاه القاهرة ثم شرقًا إلى منطقة سيناء في اتجاه لبنان وسوريا ثم اتجهتا ناحية الشمال الغربي فوق البحر الأبيض المتوسط، وقد استغرقت هذه الدورة فوق الأراضي المصرية 25 دقيقة في تمام الساعة الواحدة وخمس دقائق من بعد الظهر.
استخدمت أمريكا طائرات لوكهيد SR-71 على نطاق واسع في عمليات الاستطلاع أثناء الحرب الباردة، نظرًا لمواصفاتها الفنية القياسية، حيث تستطيع التحليق على ارتفاع يبلغ 85 ألفاً و69 قدمًا، والوصول إلى سرعة قصوى تبلغ ألفين و193.2 ميل في الساعة، أو ماخ 3.3، حسب السجلات الرسمية.
الكلمات الأكثر تكرارا
وصل إجمالي عدد كلمات البيانات إلى 6,278 كلمة، اللافت فيها أن كلمة "العدو" ذُكرت 171 مرة، وهي أكثر كلمة تم تكرارها في جميع بيانات القيادة العامة خلال حرب أكتوبر، يليها كلمة "قواتنا" التي ذكرت 155 مرة، ذلك بخلاف مرادفات أخرى مثل كلمة "تشكيلاتنا"، التي ذكرت 13 مرة، وفي المركزين الثالث والرابع يظهر دور سلاح الطيران في حرب أكتوبر، حيث ذكر لفظ "الجوي" 48 مرة، وطائرات 45 مرة.