ذهب ولم يعد.. رحلة موت في صحراء السودان
كتب- محمود الطوخي:
"أخوك أحمد مات ومش هاينفع نرجعه مصر"، كلمات حوتها مكالمة هاتفية لا تتخط مدتها دقيقة واحدة، تلقّاها هشام عبد الجليل قبل منتصف الليل وجعلت الأفكار تتزاحم في رأسه، لا بد وأن هناك خطأ ما فقد اطمأن عليه منذ ساعات عبر الهاتف، ولم لا يمكن أن يستعيد جثمانه إن صحّ الخبر؟
يروي هشام تفاصيل رحلة لم يحسب لها شقيقه أحمد عبد الجليل كثيراً، شحنة من المنظفات سينقلها إلى السودان في رحلة كان من المفترض أن تستغرق 12 يوما، ويجني منها مبلغا جيداً يسد به جزء من مصروفات أطفاله الخمسة، على أن يبقى على تواصل معهم طوال فترة غيابه، يقول هشام: "كانت أول مرة يسافر فيها بره مصر، وعمل باسبور مخصوص عشانها".
بعد خمسة أيام من بداية رحلة عبدالجليل إلى السودان انقطعت الاتصالات بينه وبين شقيقه هشام، وكان قد أخبره مسبقاً بأنه قد لا يتمكن من التواصل معه مجدداً لحين عودته بسبب ضعف إشارة الهاتف ما أن يعبر الحدود إلى السودان، يقول هشام: "مكنش بيشتكى من حاجة غير إن درجات الحرارة صعبة جدا بالحدود".
وصل السائق الخمسينى إلى الحظيرة الجمركية السودانية بحمولته، لكنه لا يجد التاجر في استقباله لاستلام بضائعه ككثيرين غيره، ولا موطئ لقدم في المخازن هناك ليفرغ فيها حمولته، فاضطر إلى الانتظار في المنطقة الحدودية الواقعة بقلب الصحراء، يستهلك مخزونه من المؤن وتذيب الحرارة ألواح الثلج التي تحفظها.
تأخر عبور الشاحنات المصرية إلي داخل الحدود السودانية، أرجعته وزارة النقل المصرية الجانب السوداني، وقالت في بيان لها: إن تباطؤ إجراءات التخليص الجمركي في الجانب السوداني الذي يعمل لساعات محدودة يومياً هو سبب الأزمة.
بعد أيام من الانتظار كانت المعلبات التي اصطحبها عبد الجليل قد فسدت دون علمه، ليتناول عشاءه الأخير في العاشرة مساء هو ورفيقه كمال أبو رية (سائق عربة نقل)، وخلدا إلى النوم.
بعد انقشاع ظلمة الليل، انبعثت رائحة تزعج أنف حمدي سكر (سائق عربة نقل على الحدود السودانية)، تثير معها تساؤلاته حول مصدرها، ربما تكون جيفة لحيوان برّى نافق، لكن شيئاً داخله أراد أن يتثبت من الأمر، ليقف متجمداً أمام جثمانين قد بدءا في التحلل، مات عبد الجليل وأبو رية ولحقا بآخرين قضوا لأسباب مختلفة.
تجمّد سكر في محلّه وسرت رجفة في جسده من هول ما يرى، حتى واتته فكرة أنهت عجزه اللحظي، هواتفهم! ربما تمكنه من التوصّل لأحد أقاربهم، وقد يَلقى المساعدة من صديقه محمد الحص (سائق نقل) الذي عاد من الحدود إلى القاهرة حديثاً، في العثور على أسر السائقين وإعلامهم بالوفاة، يقول الحص: "اتصلت ببنات المرحوم كمال أبو رية وعرفتهم إنه مش هاينفع يرجع مصر.. قالوا لي (هاتلنا لو عظمة واحدة ندفنها في مكان نعرفه ونقرأ عليه الفاتحة).
سائقا الشاحنة أحمد عبدالجليل وكما أبو رية ليس حالتين الوفاة الوحيدتين التي شهدتها المنطقة الحدودية بين مصر والسودان، منذ اندلاع الحرب السودانية منتصف إبريل الماضي، فمع اندلاع شرارة الحرب الأولى، أصبح انتظار سيارات النقل وشاحنات البضائع ظاهرة سائدة على الحدود، وفقا لعدد من السائقين تحدثوا إلى مصراوي، وكان أغلب حالات الوفاة سببها ضربات شمس وأمراض مزمنة، وهو ما أكدته تصريحات إعلامية لنقابة العامة للنقل البري.
استغاثات ومناشدات السائقين العالقين على الحدود، تفاعل معها المسؤولون في مجلس الوزراء ووزارتي النقل والصحة ومحافظة أسوان، وأصدر قراراً بإيفاد الشاحنات إلى المعابر الحدودية بنظام التفويج بعد تجميعها في محافظة أسوان، لحين الانتهاء من إنشاء مناطق خدمية تشمل مطاعم ودورات مياه ونقاط إسعاف، إلى جانب تطوير المناطق اللوجستية بأسوان وأبو سمبل وفق توجيهات مجلس الوزراء الواردة في بيان وزارة النقل.
ولكن هيهات أن يصمد الحص أمام استجداءات بنات أبو رية ونحيبهم، فانحاز بعاطفته إلى مأساتهم مطالباً سكر بمحاولة إعادة جثمان والدهم إلى مصر، ليلقى رداً أنهى آمال الفتيات: "بكلم سكر هناك يقولى ألطم على وشى أنا لو مش حرام كنت صورتلك الجثث.. أجيبها إزاي أحطها في أكياس ولا اعمل إيه؟!".
سار عبد الجليل إلى مثواه، وأظهر الفحص الطبي موته مسموما "أكلوا تونة فاسدة"، وكان جواز سفره الذي استخرجه حديثاً بمثابة شهادة وفاة مسبقة، ليموت بمعزل عن أهله، كما سيظل قبره المجهول هو وأبو رية مأساة يعيشها أبناؤهم لسنوات حياتهم الباقية في كل لحظة ودقيقة، لن يجدوا فيها مواساة أو عزاء لأنفسهم.