"شوشة".. شواء الأسماك في أقدم فرن طاقة بالسويس
السويس - حسام الدين أحمد:
بين حرارة الطقس والرطوبة المرتفعة في السويس والفرن، يقف محمد عثمان بين نارين، يشوي الأسماك وطعام البحر، في أقدم "طاقة نار" بفرن شوشة الأقدم في المدينة.
العام 1883
قبل 140 عامًا، تحديدًا في 1883 أقام حسن شوشة الفرن في بيت بمنطقة الغريب، كان الشكل والنظام السائد في ذلك الوقت هو أفران طاقة النار، والوقود المستخدم كان بقايا خشب تصنيع المراكب (فُضل المراكب وطفش الخشب)، ينتج حرارة كافية لشواء السمك، ونضج الخبز ومختلف أنواع الطعام، وكانت فون شوشة من أكبر الأفران بالغريب.
يقول محمد عثمان المسؤول عن تشغيل الفرن وشوي الأسماك في الوقت الحالي، إن الوقوف أمام الفرن جعله يعتاد على حرارة ربما لا يتحملها البعض، ورغم المساحة التي تغطيها النار داخل الفرن بحجم غرفة صغيرة إلا أن الباب الصغير لدخول الأسماك أو الطاقة كما يعرفها أهل السويس تحافظ على تلك الحرارة داخل الفرن بقدر كبير وما يخرج منها يمكن احتماله لمن اعتاد عليه.
يروي محمد عثمان إن حسن شوشه مؤسس الفرن أنشأها ثم سافر إلى القاهرة، ليشارك في الكفاح الشعبي ضد الاحتلال الإنجليزي، وبعد 3 شهور عاد للسويس وفتح الفرن وبدأ العمل ولم تتوقف الفرن منذ ذلك الحين حتى في أيام العدوان الثلاثي ونكسة يونيو 1967، وأيام حصار السويس عقب حرب أكتوبر والذي استمر 100 يوم.
جيل رابع
تعلم محمد العمل والوقوف أمام طاقة النار صغيرا مثل عثمان والده الذي بدأ العمل بنفس المكان وهو طفل عمره 11 عام، قضي والده سنوات عمره مع الحاج فواد شوشه، حتى وفاته وتولي أبنه أحمد فواد إدارة الفرن، وكان أحمد الحفيد الرابع لمؤسس الفرن حسن شوشه، يعاونه عثمان رئيس العمال في الفرن.
" زمان كانوا يستخدموا الخشب فقط للتشغيل، وكان أفضل الخشب بقايا تصنيع المراكب والفلايك" يحكي محمد عن الطرق التي كانت تستخدم حتى سبعينات القرن الماضي، لإشعال النيران للوصول للحرارة المطلوبة وكانت كافية لشوي الأسماك أو تسوية أي نوع آخر من الطعام.
أسماك وخبز
يقول محمد ابن ريس العمال بالفرن والذي حل مكان والده بعد تقدمه في السن، إن الفرن في الماضي كانت تعمل 18 ساعة في اليوم تقتات النيران على الخشب، ويبدأ اليوم عقب صلاة الظهر وتشوى الأسماك للأهالي، كل حسب ما يجلب من السوق فضلا عن الأسماك المباعة في المحل، ومساءا يتحول النشاط مع غروب الشمس إلى تسوية الخبز المصري والعيش الشمسى للمواطنين.
استقبلت الفرن أيضا صواني وصاجات الكابوريا القشريات البحرية الأخرى والمحار كالسريديا واللوجز وطماطم البحر، حسب ما يحمله كل زبون، كان سعرها رخيص قبل 20 عاما أقل من الفاكهة ويأكلها الأهالي كمسليات ووجبات خفيفة.
تكليف بالعمل
"والدي حكالي إن الفرن كانت شغاله بعد النكسة وأيام الهجرة وحتى بعد الحرب والحصار" يقول محمد ويوضح : " وقتها الحاج فؤاد شوشه جاله تكليف بالبقاء في السويس وأن يعمل بالفرن يشوي الأسماك ويسوي الطعام، ضمن توفير سبل الاعاشة بالمدينة لمن سمحت لهم الأجهزة المعنية بالبقاء في المدينة لتسيير سبل الحياة".
بعد الحرب والتهجير تغير المشهد، دخلت أنابيب البوتاجاز كمصدر للطاقة، لكن ظلت الفرن كما هي على وضعها القديم تعمل بطاقة النار، وقبل بضعة أعوام بدأت تعتمد على الغاز الطبيعي في العمل بعدما شح الخشب المتبقي من صناعة المراكب.
نار الحطب
رغم الاعتماد على الغاز الطبيعي لتشغيل الفرن، إلا أن الخشب ضروري للتسخين في البداية، لرفع درجة حرارة الفرن، لا سيما خشب أشجار التوت العتيقة لأنها تكون جافه تماما، وتعطي تأثير التدخين داخل الفرن وطعما أفضل للسمك، ويبدأ العمل في العاشرة صباحا ويستغرق التسخين ساعتين، بعدها يمكن البدء في شوي الأسماك اعتمادا على حرارة الغاز الطبيعي.
الصغير بعيد
يسع الفرن 28 صاج شوي كبير، فهي الأكبر حجما في السويس بطول 4 أمتار وعرض 3 أمتار، كلها تغطيها بدرجات متقاربة وكلما اقترب الصاج من النار كانت درجة أعلى، وهو المطلوب للأسماك الصغيرة، حتى تنضج وتخرج بلحم طري شهي، بينما وضعها بعيدا عن النار يجعلها جافة.
"السمكة الصغير ينشف لو بقي بعيد، لكن الكبير لو قرب من النار يتحرق من برا ويفضل ني من جوا، مكانه الأفضل في الوسط أو بعيد عن مصدر النار فياخد حقه خاصة لو سمكة دسمة ذي البوري والدنيس بتحتاج وقت وتسوية هادية" يوضح محمد أن حجم السمكة يحدد مكانها في الفرن.
أما عن تسوية القشريات مثل الجمبري والكابوريا يفضل محمد تجهيز خلطة خضروات لها، ويضع فوقها صاج أخر ليقلل تأثير النار عليها، ويكون في الوسط، مع التقليب مثل الأسماك.
الطعم في الطاقة
قديما كانت حلقة السمك في الغريب، بجوارها فرن شوشه، ورغم نقل الحلقة إلى سوق الانصاري قبل عقدين ووجود عدة محال لشوي الأسماك على الجريل، إلا أن الأسر في السويس تفضل شوي الأسماك في فرن الطاقة.
يقول محمد إن حلقة السمك إن تسوية السمك في الطاقة يعطي السمكة طعم مختلف عن الجريل، ذلك لان الطاقة تحبس الحرارة ولا تفقدها بسبب طريقة بناءها، بجانب استعمال الحطب والذي يضيف مزاق مختلف للشوي.
لاحس وصايم
"كل السمك ينفع يتشوي، لكن في أنواع الأفضل لها القلي" يخبرنا محمد أن سمكة الحارت والباغة الأفضل لها قليها في الزيت، لانها سمكة قليلة الدهون، وتفقدها مع الشوي، بينما البوري والدنيس والمرجان اللاشته والصرع والأنواع الأخرى دات القشرة السميكة والدسمة الأفضل لها الشوي، وكذلك كل الأسماك "الصايمة" وهي السمكة التي تخرج مع الصيادين فجرا قبل شروق الشمس، تكون بطنها فارغة من أي طعام، وهي الأفضل مذاق.
وتابع أن بعض أسماك البحيرات والمزارع، يكون "لاحس" بطنه مملوءة بالطين مثل سمك السيجان الذي يجلبه التجار من العريش وبورسعيد في فترة وقف الصيد بخليج السويس، وعند شويها تمزق الحرارة بطن السمكة وتخرج سوائل السمكة محملة بالطين وتفسد طعم السمك، والأفضل لها تنظيفها وقليها.
يستطرد أن أسماك البحر عادة تشوي كما هي دون فتح البطن، إلا إذا رغب الزبون في ذلك، خاصة ان طاقة النار تحافظ على السمكة، وبعد نضجها تخرج البطن بسهولة مغلفة كما هي، والبعض يطلب فتحها وتجهيزها سنجاري أو بالخلطة، وعن السعر يقول محمد أن أي سمك يشوي بسعر 15 جنيها للكيلو، وكذلك الجمبري وأي قشريات، مع مراعاة الأنواع الشعبية رخيصة السعر مثل الشخرم والسمك الصغير الذي لا يتعدى سعره الكيلو منه في الموسم 40 جنيها فيشويه بسعر 10 جنيهات فقط تيسيرا على صاحبه.
سمك وفراخ وكحك
يتخلف يوم العمل في شهر رمضان، " بنشوي سمك ولحوم وكمان فراخ للفطار، ومفيش أي صينية بتاخد ريحه السمك لان حرارة الطاقة والمدخنه بتاخد أي ريحه"، يضيف عثمان أما بعد الإفطار فتبدأ تسوية الكحك والفتوت، التي تحتاج حرارة عالية.
فخار وبلاط حراري
يوضح عثمان السر وراء أفران طاقة النار التي بدأت تندثر في السويس هو طريقة بنائها، في البداية توضع عشرات القدور من الفخار "البلاص" وتجلب من صعيد مصر حيث تستخدم عادة لحفظ العسل والجبن القديمة، "بنرصها عكس بعض واحد لفوق والتاني لتحت، وبعدين تغطي بالرمال وفوقها بلاط حراري كبير".
يستكمل أن المرحلة الثانية هي بناء السقف، وتكون بوضع كومه من الرمال على شكل هرم، لصنع التجويف الداخلي للفرن ويشد عليها عدة طبقات من الشباك الحديد وفوقها طبقة اسمنت ثم تبني بالطوب الحراري مع حساب مكان المدخنة، وتلك الطريقة تحتفظ الفرن بحرارتها مدة طويلة تستمر في بعض الأحيان حتى يومين، لكن ذلك لا يغني عن تسخين الفرن صباح كل يوم للوصول للحرارة المطلوبة والعمل 6 ساعات لشوي الأسماك.