"الأرض لم تُزهر في ليلة الميلاد".. مسيحيو غزة
كتبت- سارة أبو شادي
"ليلة الميلاد يُمحىَ البُغضُ… ليلة الميلاد تزهرُ الأرضُ… ليلة الميلاد تُبطلُ الحرب… ليلة الميلاد يَنبِتُ الحُبُ"، ترنيمة مسيحية تصف ليلة العيد، لكن في فلسطين هذا العام تغير المشهد تمامًا فلن تُزهر الأرض ولن تُبطل الحرب، بل أطفأت البلدة القديمة أنوارها حُزنًا على أبنائها المُحاصرين داخل أروقة الكنيسة في غزة، مُهددون بالموت قصفًا أو قنصًا، دون طعام أو شراب.
في السابع من يناير يحتفل مسيحيو الشرق بعيد الميلاد المجيد، يتوافد الآلاف من أبناء فلسطين لقضاء ليلة العيد والصلاة داخل كنيسة المهد في بيت لحم، بينما آخرين تجمعوا لتلاوة الترانيم داخل كنيستي غزة، تلك الصورة المعتادة كل عام، لكن وفي ظل العدوان القائم على القطاع منذ السابع من أكتوبر تجمع المسيحيين داخل الكنيسة ليس للاحتفال ولكن لمحاولة النجاة من القصف.
في غزة نحو 1021 مواطن مسيحي يقطن بالقطاع يسكنون جميعهم في مدينة غزة تحديدًا في المدينة القديمة بعدما نزحوا من مناطق 48 عقب النكبة، بخلاف عائلة في خانيونس بالجنوب، من بين هؤلاء كامل عياد المواطن الذي يعمل داخل الكنيسة الأرثوذوكسية بالقطاع، والذي تحدث لمصراوي تفاصيل ما يعيشه أهله أيام العيد في ظل العدوان.
"جميع العائلات المسيحية لم تجد أمامها ملجأ آمن سوى بيت الرب"، مع بداية الحرب في السابع من أكتوبر 2023، نزح كامل وجميع أفراد أسرته وغيره من المسيحيين بمدينة غزة نحو الكنيستين المتواجدتين في البلدة القديمة بمدينة غزة، "كنيسة القديس برفيريوس للروم الأرثوذوكس، وكنيسة العائلة المقدسة"ـ لكن فيما بعد خرج كامل وأطفاله وزوجته إلى مصر فيما بقيت والدته المصرية وشقيقه وأطفاله في غزة.
قبل الحرب وفي بداية شهر ديسمبر جرت العادة أن يقوم الارتباط الفلسطيني بالتقديم للارتباط الإسرائيلي، للحصول على تصاريح السماح بمرور المسيحيين في غزة إلى مدينة بيت لحم وقضاء أيام العيد بكنيسة المهد، وزيارة كنائس القدس، لكن هذا العام بسبب الحصار المفروض والعدوان القائم لم يتم التقديم للحصول على التصاريح.
"فيه ناس بيطلعلها تصاريح وناس لا ومدة التصريح بتكون بسيطة أسبوع فقط"، التصاريح كان تُقدم باسم جميع أفراد الطائفة المسيحية في غزة، لا يتم الموافقة عليها بالكامل يمكن أن يتم التصريح لفرد واحد من العائلة، لذا في كثير من الأحيان تلجأ العائلة بأكملها لقضاء العيد سويّا في غزة.
"إخوانا المسلمين كانوا ببفرحوا معانا في هاد العيد".. قبل ليلة عيد الميلاد بأيام يحتفل مسيحيو غزة بمناسبة أخرى وهي عيد القديسة بربارة، والذي يعد من أقدم التقاليد في الكنائس المسيحية، وتسمى ليلة البربارة، حيث يطهو أهل غزة المسيحيون في تلك الليلة أكلة باسم العيد وحلوى ويتم توزيعها على الجيران مسلمين ومسيحيين.
الصيام لمدة 40 يومًا كان طقسًا أساسيّا لكن في ظل العدوان القائم على القطاع، وحصار المدنيين داخل الكنيستين دون طعام أو شراب منعهم من الصيام، فهم يصومون إجبارًا اليوم، بل إن بعضهم لا يجد كسرة خبز يتناولها ويمكن أن يظل أيام بدون طعام والغالبية يحصلون على علبة فول ورغيف خبز للعائلة بأكملها.
"ليلة العيد كانت تضاء أنوار الكنائس وتقام الصلاة وبعدها نزور الأهل والأصدقاء ونخرج إلى بعض الأماكن للاحتفال، كان هاد عيدنا قبل الحرب". في الثالث عشر من نوفمبر الماضي، خرج كامل وزوجته وأطفاله من غزة ، وعبر إلى مصر بعدما تم الموافقة على خروجه وعائلته كونه يحمل جواز سفر مصري.
في حين لا زالت والدته "المصرية" صاحبة الـ77 عامًا، وشقيقه محاصرين داخل كنيسة القديس برفيريوس، يصعب عليهم التحرك إلى أي مكان ، بينما يتواصل معهم حسب الإمكان في ظل انقطاع الاتصالات بين الحين والآخر، حيث يقوم بإرسال رسالة إلى شقيقه وبعد أيام يتم الرد عليها محتواها "أنّهم بخير ولا يزالوا على قيد الحياة".
نحو ألف مواطنًا مسيحيّا استقروا داخل الكنيستين اللتين تبعدان نحو 500 متر عن بعضهما البعض، معتقدين أنهم أصبحوا في أمان بعيدًا عن طائرات المحتل، لكن في التاسع عشر من أكتوبر الماضي، تعرضت كنيسة القديس برفيريوس لقصف صاروخي، استشهد حينها نحو 18 مواطنًا أغلبهم من الأطفال والنساء.
في السادس عشر من ديسمبر اغتالت قناصة الاحتلال سيدتان "أم عماد- سمر أنطون"، أثناء تواجدهم بساحة كنيسة العائلة المقدسة والتي تأوي بداخلها نحو 530 شخصًا، وبعدها قصفت دبابة إسرائيلية دير راهبات الأم تريزا "مرسلات المحبة الذي يأوي نحو 70 شخصا من ذوي الإعاقة من الأطفال وكبار السن، وهو داخل أسوار الكنيسة"، ما تسبب في احتراق نصف الدير، بل وتدمير خزان الوقود ومولد الكهرباء "وهو المصدر الوحيد للطاقة".
لم يختلف الحال مع خليل الصايغ، الشاب الفلسطيني الذي يعمل في الولايات المتحدة الأمريكية، بينما تقطن عائلته اليوم داخل كنيسة العائلة المقدسة في غزة، في أوائل العدوان على غزة قُصف منزل خليل، بل إن نحو 60% من منازل المسيحيين بمدينة غزة تم قصفها، ونزحوا جميعهم نحو الكنيستين ومن بينهم عائلة خليل.
"بسبب تدمير المشافي وصعوبة التحرك فقدت والدي"، بسبب الظروف الصحية في مدينة غزة وصعوبة التحرك من داخل الكنيسة فقد خليل والده والذي توفى نتيجة جلطة أو كما وصفها الأطباء المتواجدين داخل الكنيسة "نوبة خوف".
ومع القصف الشديد تحديدا الذي طال الكنيسة، وعمليات القنص الكثيفة عليها، تدهورت صحة والد الشاب وعلى مدار يومين لم يتمكنوا من نقله لأي مستشفى، في ظل محاولات أطباء الكنيسة لإنقاذه لكن محاولاتهم فشلت في ظل عدم امتلاكهم أي أدوات طبية، ليعلن عن وفاة والده في 21 ديسمبر.
عائلة خليل تواجه خطر الموت جوعًا هي وغيرها من العشرات المتواجدين بكنيسة العائلة المقدسة ويبلغ عددهم ما بين الـ 300 و500 مواطن، فمخزون الطعام الذي كان بالكنيسة مع بداية الحرب فرغ يومًا بعد يوم، وخلال الأيام الماضية، كان الـ5 أشخاص يشتركون في علبة ذرة واحدة، وفي الكريسماس ساهم الجيش الأردني في عملية إنزال جوي لمساعدات على الكنيسة لكن في ظل الحصار الطويل لن يكفهم أيضًا.
"سنين طويلة لم التقي بعائلتي بسبب الحصار"، بالرغم من أن خليل لم يقض العيد مع أهله منذ فترة كبيرة، فالشاب قد سافر إلى أمريكا قبل نحو عامين وقبلها بنحو 10 سنوات غادر غزة للإقامة في الضفة الغربية بينما ظلت عائلته في القطاع، خلال أيام العيد كانت أسرته تسعى للحصول على التصاريح للخروج إلى الضفة لكن الأمر لم ينجح كثيرًا .
التقى خليل بوالدته في الضفة وقضى معها ليلة عيد دون والده، وفي عيد آخر التقى والدته دون والدته، الاحتلال لم يكن يسمح لأفراد العائلة بالكامل الخروج، حتى اليوم وبالرغم من أن العائلة بالكامل في غزة بخلاف "خليل"، لكنهم أيضًا مشتتين تحت الحصار، والدته وشقيقته داخل كنيسة العائلة المقدسة، بينما شقيقته الأخرى داخل كنيسة القديس برفيريوس، بينما يُعالج شقيقه داخل إحدى مشافي الجنوب بعد إصابته في الحرب.
"المسيحيون اتخذوا قرارًا بعدم المغادرة حتى لا تتكرر نكبة 48 فمن يخرج لا يعود"، آخر اتصال بين خليل وعائلته كان قبل ليلة رأس السنة بنحو 6 ايام، يوميّا يحاول الوصول إلى أيا منهم إما عن طريق مكالمة هاتفية أو حتى رسالة، للاطمئنان عليهم إذا كانوا أحياء أم لا.
يعد المسيحيون أقلية في غزة، حيث يبلغ عددهم نحو 1100 شخص ينتمون إلى طائفتي الروم الأرثوذكس والكاثوليك، أي أقل من 5 بالمئة من مجمل السكان، ومعظمهم من الروم الأرثوذكس، و يعيشون جميعهم في مدينة غزة بخلاف عائلة فقط هي من تعيش بالجنوب من أصول مصرية.
في ظل العدوان على غزة يحتمي المسيحيون الذي غادروا منازلهم بسبب القصف، داخل كنيسة القديس بورفيريوس التابعة لطائفة الروم الأرثوذكس، وكنيسة العائلة المقدسة التابعة للطائفة الكاثوليكية، و هما الكنيستان الوحيدتان اللتان تنشطان في غزة حالياً.